دور الدين في ضبط المجتمعات
احتل الدين مكانة كبيرة في المجتمعات منذ القدم ، ولاحظنا الدور الذي يقوم به الدين في ضبط المجتمع عند استعراضنا لأساليب الضبط الاجتماعي في الفصل السابق ، حيث " كان الدين منذ القدم هو المصدر المتجدد للأخلاق والقيم ، وهو التنظيم الاجتماعي الوحيد الذي يسود الحياة الاجتماعية وينسقها " . " ويرى العلامة ابن خلدون أن ضبط النفس إما أن يكون خارجياً يتحقق عن طريق القانون ، وإما داخلياً يتحقق عن طريق الدين والشريعة ، وإما أن يكون ضبطاً اختيارياً يأتي عن طريق الضمير " . والمجتمع لا يترابط ولا يتماسك إلا بفضل الدين ، كما لا يوجد المجتمع أصلاً إلا على أساس الإيمان الجمعي .
ويشير إيريك فروم في كتابيه ( المجتمع السليم ) و ( الخوف من الحرية ) إلى أن نسبة الاضطرابات النفسية والعصبية تزداد في المجتمعات الحضرية الحديثة ، حيث تضعف المشاعر الدينية ، وحيث يزداد الإحساس بالفردية والغربة والصراع ، وحيث يزداد القلق والتوتر ، ولا يخفى ما تسببه تلك الاضطرابات من سلوكيات مرفوضة وتهديد لاستقرار تلك المجتمعات وأمنها .
وفي دراسة أجراها دوركايم عن ظاهرة الانتحار بعد أن ارتفعت نسبته في المجتمعات البروتستانتية عن المجتمعات الكاثوليكية ، تبين أن السبب في هذه الزيادة هو أن المذهب البروتستانتي يؤمن أصلاً بحرية الفكر ، ويؤكد الفردية ويدعم روحها ، ولا يؤمن بمظاهر الشعائر مما أدى إلى قلتها ، بعكس المذهب الكاثوليكي الذي يؤمن بروح المحافظة والتمسك بمظاهر التقاليد والشعائر . ومن هنا أدى تحديد المعتقدات والسلوك البروتستانتي إلى ضعف واضح في درجة الالتحام والتماسك الاجتماعي ؛ مما هدم روح المحافظة والتضامن الاجتماعي فظهرت بوادر التفكك والتخلخل واضحة بين الفرد ومجتمعه
وقد ذهب دوركايم إلى أن أقدم ديانة إنسانية هي عبادة المجتمع لنفسه ، ويعتقد أن أول ما انبثق عن عبادة المجتمع لنفسه هو نظام التحريم الذي يعتبر الأساس في الضبط الاجتماعي الذي يعتمد على أساس خلقي وديني في آن واحد .
ونظراً لأهمية الدين وقوته كوسيلة للضبط الاجتماعي ، فقد وضعه دوركايم على قمة النظم الاجتماعية ، فالدين بتعاليمه وأوامره ونواهيه يعتبر من أقوى عوامل تحقيق التوافق في السلوك الاجتماعي ، كما أن فكرة الثواب والعقاب التي تؤلف ركناً هاماً في الدين ، تلعب دوراً هاماً في عملية الضبط الاجتماعي وفي إقرار النظام في المجتمع .
" ومن هنا تبدو أهمية الدين في الحياة الاجتماعية ، لأنه يسد حاجة من حاجاته الضرورية ، بفضل وضع القواعد والقوانين التي تنظم علاقات الأفراد وتعمل على التماسك الاجتماعي ، واستقرار النظام والاطمئنان النفسي والسمو بالمشاعر الذاتية كلما زاد تعلق الأفراد بالقوى والرموز الغيبية "
موقف الإسلام من الضبط الاجتماعي :
الدين هو " وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل " والدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الدين الإسلامي﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾(آل عمران:19) " فالإسلام منهاج للحياة وطراز خاص للتفكير والعمل ، وهو يعني طاعة الإنسان لربه وإسلام وجهه إليه ، وأن يقبل المسلم المنهاج الفكري والعملي الذي أنزله الله لهداية البشر ، ويتبعه منقاداً له منسلخاً من الفوضى الفكرية والعملية ".
ويعني الضبط الاجتماعي في المجتمع المسلم الامتثال للقواعد والمعايير والقيم الإسلامية التي تحصل بها تقوى الله ، وما مجموعة الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية وطرائق التربية التي تنشأ في المجتمع الإسلامي إلا أساليب ضابطة ، فإذا كانت في حدود تعاليم الإسلام ومتفقة معه فهي مقبولة والامتثال لها يدعم التماسك الاجتماعي ، أما إذا خالفت قواعد شرعية فيجب نبذها واستبدالها بما يتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي.
إن مفهوم الضبط الاجتماعي من منظور إسلامي يتضح في إدراك أن الإنسان لم يخلق في هذه الحياة عبثاً ، وإنما جاء للقيام بمهمة تتمثل في العبادة الخالصة لله وحده وخلافة الأرض وعمارتها ، وهذا يقتضي أن يلتزم الإنسان بالضوابط المحددة لسلوكه والتي تضمن له ولمجتمعه الخير والسعادة وتحفظهم من الشرور وتحقق لهم الأمن والاستقرار وتقيهم من الانحراف والفوضى .
ويتدرج الضبط الاجتماعي في الإسلام بدءاً من الانضباط الذاتي للمسلم الذي : "rيراقب تصرفاته ويحسن سلوكه انطلاقاً من حقيقة ثابتة أقرها قول الرسول أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
وخضوع الفرد للنظام الإسلامي بمجرد انتمائه للإسلام يفرض عليه تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه في السر والعلن ليس خوفاً من السلطة ولا نفاقاً للمجتمع ، وإنما حباً في هذا النظام وإيماناً واقتناعاً بمبادئه ، وهذا بدوره يزيد من طاقة الفرد وشعوره بالانتماء للجمـاعة
وينطوي الضبط الاجتماعي في الإسلام على معنى الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى ، والطاعة قد تكون فردية أو اجتماعية . والمراد بالطاعة الفردية كل ما يقوم به الإنسان بإرادته الشخصية امتثالاً لأحكام الله المتعلقة بحياة الإنسان ذاته ، قال تعالى ﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ﴾ (الأحزاب:36) . والطاعة الاجتماعية هي امتثال أفراد المجتمع للأحكام الشرعية الاجتماعية التي جاء بها الإسلام ويباشرها الحاكم أو ولي الأمر ، قال تعالى : ﴿ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ﴾ (النساء:59) ( الخطيب وآخرون ، ) .
ثانياً : أساليب الإسلام في ضبط المجتمع
وضع الإسلام أسس كثير من الأمور الاجتماعية ، كقواعد الإرث والزكاة وغنائم الحروب وأصول المبايعات والمفاوضات ، ودعا إلى مكارم الأخلاق ، كما بين علاقة الفرد بالمجتمع ومعاملة الأفراد ، وما يتعلق بالحدود والقصاص ، كما هدا إلى الآداب العامة كبدء التحية بالسلام ، واحترام المسنين والرفق بالنساء والصبيان ، وحتم على أتباعه عامة طاعة الله ورسوله وأولي الأمر في غير معصية الله .
وتنبثق تلك الأسس من مصادر معروفة في الإسلام والمجتمعات ، حيث " إن مصادر الضبط الاجتماعي في الإسلام هي القرآن والسنة والعرف والعادة ، وفي إطار هذه المصادر تتحدد التشريعات والقواعد الخلقية والقيم التي توجه علاقات الفرد بالآخرين في المجتمع الإسلامي "
وأول هذه المصادر وأهمها على الإطلاق هو القرآن الكريم ، ذلك الكتاب المعجز بآياته ، المحكم في تشريعاته ، المتحدي بعظمته . وقد حدد القرطبي إعجاز القرآن في عشرة أوجه ، عدَّ من بينها تشريعاته ، فتشريعات الكتاب الكريم منها ما هو تنظيم اجتماعي ، ومنها ما هو خاص بالسياسة والحكم ، ومنها ما هو خاص بالنظام المالي والأنظمة المدنية ، ومنها ما هو خاص بأمن الجماعة وسلامتها ، ومنها ما هو خاص بنظام الحرب والسلم وعلاقة غير المسلمين بالدولة الإسلامية . ومن هنا يتبين أن تشريعات القرآن هي باب عظيم من أبواب إعجاز البشر وتحديهم
ويعد الدين الإسلامي أقوى الأديان ضبطاً للمجتمع . وتشمل تعاليم الدين الإسلامي مجموعة الضوابط التي يحتاج إليها الفرد متمثلة في العبادات والمعاملات .
فالأوامر والنواهي الخاصة بالمعاملات تحفظ النظام الاجتماعي بطريق مباشر ، وذلك بإيقاف كل فرد عند حدود لا يتعداها . أما الأوامر والنواهي الخاصة بالعبادات فهي تحفظ النظام الاجتماعي بطريق غير مباشر ، وذلك بتهذيب الفرد كي يستطيع الرضوخ للأوامر والنواهي الخاصة بالمعاملات .
وقرر الإسلام ثلاثة ضوابط اجتماعية تشكل منهجاً متكاملاً لحياة آمنة مستقرة ، فهناك ضابط ذاتي مصدره داخل النفس الإنسانية حيث تشكل تعاليم الشريعة ضابطاً خلقياً يحاكم الإنسان نفسه إذا أخل بها . أما الضابط الثاني فهو ضابط اجتماعي مصدره المجتمع ، فعندما يكثر تداول أحكام الشريعة على المستوى الاجتماعي تصبح بعض الأحكام أعرافاً ومصطلحات اجتماعية تحدد نوع السلوك المقبول والمرفوض في المجتمع . والضابط الثالث هو ضابط السلطة حيث تتولى تطبيق العقوبات الشرعية المقررة لأنواع المخالفات . تتكامل هذه الضوابط لتحقق حياة أقرب إلى السعادة والكمال
ويمكن تقسيم الضوابط الاجتماعية في الإسلام إلى أربعة مجالات ، تشمل جميع جوانب حياة الفرد وعلاقته بالجماعة ، ويتضمن كل مجال مجموعة من الضوابط ، وهذه المجالات هي :
1- العبادات .
2- المعاملات .
3- الآداب والأخلاق .
4- العقوبات .
وفيما يلي ، نلقي الضوء على بعض ضوابط الإسلام في المجالات السابقة ، ولا يمكن بأي حال حصر الضوابط الإسلامية كلها ، فالإسلام لم يترك كبيرة ولا صغيرة في حياتنا إلى وضع لها ضابطاً يحميها .
1- العبادات :
إن العبادات في الإسلام تعتبر ضوابط اجتماعية إيجابية ، فهي ليست مقصورة أو مفروضة لمجرد التعبد ، وإنما لتنظيم وضبط علاقة الفرد بالله ، ولتنظيم معاملات وعلاقات أفراد الجماعة بعضهم بالبعض الآخر .
فالصلاة مثلاً ، تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشـاء والمنكر ﴾ ( العنكبوت:45) فهي وإن كانت فريضة دينية ، إلا أنها تهدف إلى تحقيق أهداف ومثل خلقية في ضبط السلوك الإنساني ( الخشاب ، د.ت ) فالصلاة لها أكبر الأثر في تطهير النفس وردعها عن الرذائل ، والمحافظ على صلاته هو محافظ في سلوكه وواجباته وتعاملاته المختلفة وقد شبه الرسول أثر الصلوات الخمس في تطهير النفس كأثر النهر الجاري في تطهيرrالكريم البدن حين قال : " أرأيت لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه في يومه خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فكذلك الصلاة " .
مما سبق نرى " أن العبادات تخدم المعاملات ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصوم يهذب النفس ويشعرها بمرارة الحرمان فيجود الفرد على البائس والمحروم ، والزكاة تذهب أساساً للمحتاجين على اختلاف أنواعهم ، والحج لا يخرج الفرد إليه إلا بعد أداء ما عليه من واجبات نحو الآخرين "
2- المعاملات :
إن الشريعة الإسلامية عرضت لقواعد وضوابط اجتماعية تتعلق بنظام الحكم ، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين ، وانطوت على كثير من الضوابط القانونية التي تعتبر من طبيعة مدنية ، مثل قواعد العقوبة على الجرائم الاجتماعية كالقتل أو الشروع فيه ، والسرقة وجريمة الزنا ، كما انطوت على ضوابط حتى فيما يتصل بالأطعمة والأشربة من حيث إباحتها أو عدمه كتحريم أكل الخنزير وشرب الخمر .
كما وضع الإسلام في شئون الاقتصاد نظماً حكيمة ، تقر الملكية الفردية وتحيطها بسياج من الحماية ، وتذلل أمام الفرد سبل التملك والحصول على المال ﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾ (الملك:15) وشجع الإسلام على العمل ، وفسح المجال أمام المنافسة الشريفة ، وبذلك يتحقق للناس تكافؤ الفرص ، ولكن من جهة أخرى فإن الضوابط الاقتصادية في الإسلام تكبح رأس المال وتجرده من وسائل السيطرة والنفوذ بدون أن تعوقه عن القيام بوظيفته ، وتعمل على استقرار التوازن الاقتصادي وإذابة الفوارق بين الطبقات ، وتحول دون تضخم الثروات . وتقوم العلاقات الاقتصادية في الإسلام بين الناس على دعائم متينة من التكافل والتعاون والتواصي بالبر والإحسان ، وتضع أمثل نظام للضمان الاجتماعي
ومن مظاهر الضبط في الإسلام النهي عن قول الزور واتهام الآخر ظلماً ،ويتضح ذلك في قوله تعالى : ﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم بها بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ﴾ (النساء:112) ، وأمر بالعدل في جميع الأحوال ، فبالعدل يستقر المجتمع وينتشر الأمان : ﴿ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ﴾ (النساء:135) ونلاحظ في كل مرة مخاطبة الإسلام للنفس والضمير الإنساني حيث يتذكر الإنسان رقابة الله في كل ما يقوم به
وهكذا يتضح ضبط الإسلام للمعاملات بين الناس وخاصة ما يتعلق منها بالكليات الخمس والتي حرص الإسلام على حفظها ، وضمن لها حقوقها ، وتتمثل هذه الكليات في : حفظ الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال . وسوف نتعرض لهذه الكليات وحفظها بشيء من التفصيل عند حديثنا عن ضبط العقوبات في الإسلام .
3- الآداب والأخلاق :
اهتم الإسلام بالمجتمع والتكافل الاجتماعي ، فنهى عن البغيضة والظلم والعدوان بين المسلمين ، ووضع لذلك ضوابط عديدة . وقبل كل ذلك شدد على الأخوة الإسلامية التي من خلالها ينبع كل فعل سليم ، وكل خلق كريم ﴿ إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ (الحجرات:10) ورسم الإسلام الإطار العام لطبيعة العلاقة بين المؤمنين بقوله تعالى:﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ﴾ (التوبة:71) .
ويدعو الإسلام إلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين كما بلغ النبي الكريم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ويضع لذلك ضوابط كثيرة ، والقرآن مليء بمثل تلك الضوابط الاجتماعية ، نذكر منها على سبيل المثال :
في آداب الزيارة : ﴿ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غر بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾ (النور:27) . وفي آداب المجالس : ﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ﴾ (المجادلة:11) .
وقد بلغ من حرص الله على عبده المؤمن أن حماه من التعرض لأي أذى ولو بمجرد الكلام أو الإهانة أو السخرية أو الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب ، كما نهى عن ظن السوء بالمؤمن والتجسس وتتبع عوراته ويتضح ذلك من قوله تعالى : ﴿ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ، يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن سوء ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾ (الحجرات:11،12)
ونلاحظ التركيز على روابط الإيمان والأخوة عند الحديث في القرآن عن الآداب والمعاملات بين المؤمنين ، مما يؤكد حرص الإسلام على مخاطبة المشاعر وتكوين الضمير ومراقبة النفس وضبطها ذاتياً قبل أن تضبط خارجياً .
وكما دعا الإسلام إلى السمو بالآداب الإنسانية ، دعا كذلك إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة من كرم وحلم وعفو وغيرها : ﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ (آل عمران:134) ، ونبذ الصفات المقيتة التي تؤدي إلى النفاق من كذب وغدر وخيانة صفات المنافق : " أربع من كن فيه كانوخلف للوعد فقد ذكر الرسول الكريم منافقاً ، ومن كان فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا أؤتمن خان " .
والحديث عن ضوابط الأخلاق والآداب في الإسلام لا يمل ولا ينقطع ، فالإسلام سعى إلى تكوين الشخصية الصالحة الكاملة المتكاملة ، الإنسان المسلم المتصف بفضائل الأخلاق ، المبتعد عن رذائل الصفات ، المعتدل في سلوكه ، المؤهل لدعوة الناس في كل زمان ومكان إلى الحق والفلاح ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ (البقرة:143) .
4- العقوبات :
يستخدم المجتمع لحماية نفسه من الجريمة نوعين من الضوابط : المنع والردع ، وقد أقر الإسلام هاتين الوسيلتين واستخدمهما ، ووسيلة المنع تمنع المجرم من الاعتداء ، فهي وسيلة حماية للمجرم والمجتمع على السواء ، فلا يصبح المعتدي مجرماً ، ولا ينال المجتمع اعتداءً . ويتضح اهتمام الإسلام بهذه الوسيلة والتركيز على المنع عن طريق تكوين الضمير المسلم الواعي السليم ( كما سبق أن بينا ) . أما وسيلة الردع فيلجأ إليها الإسلام مع أصحاب النفوس المريضة والضمائر المتبلدة ، وهنا جعل الإسلام العقوبات المتنوعة رادعة لأولئك النوع من البشر ، فالإسلام يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب معاً ، فلا يركز على الترغيب وحده لأن ذلك قد يؤدي إلى سيطرة الأمل في رحمة الله فيدعوها إلى التواكل والتهاون ويفضي بها إلى الأمن من مكر الله ، بينما الترهيب وحده قد يؤدي إلى طغيان الرهبة على النفس فتيأس من روح الله مما يفضي إلى القنوط من رحمة الله ، لذا يسلك الإسلام مسلكاً وسطاً
وتصنف العقوبات في الإسلام إلى ثلاثة أنواع :
1- الحدود : وتشمل أفعالاً محرمة شرعاً بما فيها تحديد نوع وكم العقوبة المقررة لكل منها على حدة صراحة وتفصيلاً في القرآن والسنة . ومنها : حد الزنا ، والسرقة ، والردة .
2- التعازير : وتشمل الجرائم التي ترك أمر تحديد نوع وكم عقوبتها المقررة بناءً على رأي أولياء أمور المؤمنين طبقاً لمتطلبات المصلحة واعتباراً للتغير الزماني والمكاني .
3- القصاص : ويشمل الجرائم التي تتعلق بالإصابات البدنية أو الاعتداءات على الأرواح والأعضاء ، وهنا لا يتطلب الأمر أن تتطابق عقوبة الحد مع نوع الضرر المادي فقط بل قد تتجاوزه إلى آثاره المعنوية أيضاً ﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ﴾ (المائدة:45)
والحدود هي حق خالص لله ، ولا يسمى القصاص حداً لأنه حق للعبد ، كما لا يسمى التعزير حداً لأنه مقدر من ولي الأمر وليس من الله تعالى .
والعقوبة في الإسلام مرتبطة بصياغة الحقوق الإنسانية العامة والمعروفة بالكليات أو الضروريات الخمس التي أمرنا بحفظها ، وهي الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال .
ويتمثل جزاء الاعتداء على الدين في قوله تعالى : ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ (المائدة:33) .
كما يتمثل جزاء الاعتداء على النفس في قوله : ﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ (البقرة:178) ، ومن الضوابط الإسلامية أنه لا يجوز لأهل القتيل الثأر بأيديهم حتى لا ينتشر القتل ، بل عليهم الالتجاء إلى ولي الأمر كي يقتـص لهم من القـاتل وتعهد الله بنصره ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ﴾ (الإسراء:33) .
وجزاء الاعتداء على العرض بالزنا : ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ (النور:2) ، وجزاء الاعتداء على العرض بالقذف : ﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ (النور:3) .
والاعتداء على العقل يكون بإذهابه عن طريق شرب الخمر والمسكرات ، وشارب الخمر جزاؤه تعزيراً ثمانون جلدة ، ويقول الله في تحريم الخمر : ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ (المائدة:90) .
أما الاعتداء على المال فيتمثل الجزاء فيه بقوله تعالى : ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله ﴾ (المائدة:38) .
" ويقرر الإسلام مبدأ التشهير بالعقوبة ﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ (النور:2) والغرض من المشاهدة هو التشهير بالمذنب من جهة وضرب المثل للغير من جهة أخرى ، وحيث أن الإنسان حريص دائماً على كرامته واحترامه بين الناس ، لذلك فإنه يبتعد عن الوقوع في الخطأ الذي يعرضه للعقوبة والتشهير به " .
ومما سبق نرى أن العقوبة في الإسلام تحرص كل الحرص على أمن الجماعة ، فهي جزاء يرد به المجتمع على جريمته . والجريمة هي عدوان على حق المجتمع في الأمن والسلامة ، وعدوان على المجني عليه بحرمانه من حقه في الحياة أو الحرية أو التملك ، وهي أخيراً عدوان على نسيج العلاقة التي تربط الأفراد فيما بينهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق