شمول الضوابط الإسلامية وقصور الضوابط الوضعية :
يدعي أعداء الإسلام أن في تطبيق الحدود قسوة لا تتفق مع حقوق الإنسان ، ولا مع التطور الحضاري في هذا الزمان ، وهم ينادون باستبدال تلك الحدود بقوانين وضعية بحجة أن الحدود وضعت لزمان غير زماننا ،ولكننا نرد بقوله تعالى : ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ (المائدة:49) .
فالله أنزل الشريعة الإسلامية لتلائم كل زمان ومكان ، وحدود الله التي فرضها إنما تناسب طبيعة النفوس الضعيفة التي جبلت على الخوف من العقوبة الحاضرة الظاهرة بشكل أشد وأردع من الخوف من عقوبة الآخرة ، وعليه فإن الأثر الاجتماعي للحدود لا يقف عند مرتكب الجريمة وحده وإنما يتعداه إلى غيره ، فلو طبق الحد على زانٍ أو سارق أو شارب خمر جهاراً أمام الناس في مجتمع تنتشر فيه هذه الآثام ، كان في ذلك أكبر وازع وأقوى عامل من عوامل الحد من تلك المشكلات الاجتماعية الأخلاقية ، والبعد عن ارتكابها والتفكير ألف مرة قبل التردي في مستنقعاتها . وهكذا تبرز حكمة الإسلام ونظرته العميقة للمجتمع ، حيث جعل الحدود جزاءً رادعاً لجرائم خطيرة تمس أمن المجتمع ، وجعل القصاص مساواة تامة بين الجرم والعقوبة ، أما التعزير فقد جعله أمراً متروكاً لاجتهاد العالم المسلم فيراعي طبيعة المجرم والجريمة : " ادرءوا الحدود بالشبهات " للرد على كلrوالظروف المحيطة . ويكفي قوله لسان يعادي الإسلام وشريعته ، فهذا الحديث يدل على السماحة المتأصلة في الشريعة الإسلامية ، والتسامح والتعاطف البالغ مع أبنائها ( إسماعيل ، ) .
إن الإسلام حين وضع ضوابط اجتماعية ، لم يهمل احتياجات الفرد وخصائص طبيعته البشرية ، فجاءت الضوابط الإسلامية مرنة ملائمة لكل عصر وكل حالة إنسانية ، ولنأخذ مثلاً ضوابط الزواج والطلاق في الإسلام :
دعا الإسلام إلى الزواج وتكوين أسرة لما في ذلك من دعم للمجتمع المسلم وحفظ لكيانه ، ولما للزواج من فوائد عديدة للفرد والجماعة ﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ (الروم:21) . وأباح الإسلام للرجل الزواج بأكثر من امرأة إذا دعت الحاجة لذلك بشرط العدل بين الزوجات ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾ (النساء:3) وأبغض الإسلام الطلاق ونفر المسلمين منه ودعا إلى الإصلاح بين الزوجين بشتى الوسائل ، ولكنه مع ذلك لم يحرمه ، بل يصبح الطلاق ضرورة إذا تأزمت الحياة الزوجية واستحالت العشرة بين الزوجين ، حينئذٍ يكون الطلاق حلاً مطلوباً ومخرجاً من حياة لا تطاق ، مع الاحتفاظ بحقوق الزوجة وحسن المعاملة حتى بعد الطلاق ﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ (البقرة:299) . وهنا تظهر سماحة الإسلام في عدم الضغط على أفراده ، بل مراعاة ظروفهم إلى أقصى حد ، كما يظهر الفرق بين الإسلام والقوانين الوضعية الغربية التي تمنع الزواج بأكثر من واحدة ، كما تمنع الطلاق بين الزوجين بأي حال من الأحوال ، وبنظرة سريعة إلى مظاهر الانحراف والشذوذ وسوء الأخلاق بين الزوجين وانتشار الخيانة الزوجية والتفكك الأسري القائم في الأسر الغربية ، يتضح لنا مدى تسامح الإسلام ومرونة ضوابطه الاجتماعية .
إن الضوابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية في الإسلام صادرة من نبع واحد أصيل ، ومصدر ثابت لا يتغير ولا يعرف الزلل أو الخطأ ، ومن ثم لا يقع المسلم بين ضغوط الاختلافات التي تقوم في المجتمعات الأخرى ، والتي تتعارض فيها الفضائل الاجتماعية الضابطة لسلوك أفرادها ، فالمؤسسات الاجتماعية تفرض ضوابط ، والمؤسسات الدينية تفرض ضوابط أخرى ، وهناك من ينادي بحرية الفرد في أخلاقياته وعدم الخضوع لأي ضوابط إلا ما يراه هو مناسباً . وهنا أصبح الناس منقسمين ، ويعيش الفرد فيهم بأكثر من شخصية ، ولذا شاع عندهم الأمراض النفسية كالفصام وعمليات الانتحار . ولنضرب مثلاً على حالة التناقض التي يعيشون فيها : في بريطانيا هناك أستاذ فقه القانون الأستاذ هارت ينادي في كتابه "القانون والحرية والفضيلة " بضرورة الحفاظ على حق الفرد أن يفعل ما يريد ما دام عمله لا يترتب عليه ضرراً للآخرين ولو كان فعله جريمة أخلاقية ، بينما على الطرف الآخر ينادي كبير قضاة بريطانيا لورد دفلن في كتابه " ضرورة فرض الفضيلة على الناس " بضرورة فرض الفضائل على الناس أرادوا أو لم يريدوا . وثار الجدل حول هذه الآراء ، ولم يزل ثائراً ، وسيظل كذلك ما دام القانون المنظم للمجتمع من وضع الناس لا من وضع العلي العظيم خالق الناس
ويشهد المنصفون منهم على قصور قوانينهم وكمال إسلامنا حيث يتناول كتاب (القادة الدينيين Religions Leaders ) لمؤلفيه "هنري ودانالي توماس" ثلاثة أنبياء : موسى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام) وغيرهم من الأئمة والمصلحين في كافة الديانات والمذاهب . فذكر عند حديثه عن الرسول عليه الصلاة والسلام : « إن القرآن واضح في منهج السلوك الذي يتطلبه من المسلم فإن واجبه الأول أن يرتفع غاية الارتفاع . وقد عمل على إدماج النزاع بين الأفراد والقبائل في أخوة إسلامية ، وتوسل إلى تحقيق هذه الأخوة بتعليم كل رجل وكل امرأة وكل طفل منهجه الكامل من السلوك المستقيم ، فجاء بتحريم الخمر والميسر والخداع والأثرة والقسوة على أي وجه من الوجوه ، وألهم المسلمين أن يفرقوا بين حدود العبادة ، وحدود الأخلاق والنيات ، فليس البر أن يولوا وجوههم قبل المشرق والمغرب ، وإنما البر في الإيمان والإحسان ، وعلى المسلم أن يدفع عن نفسه ، وأن يقاتل من يقاتلـه ، ولكنه لا يعتـدي لأن الله لا يحب المعتدين »
" إن الإسلام هو الكفيل بتحقيق أمل الإنسان في الأمن والرخاء والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص والمشاركة الواعية البناءة في صنع واقعه وتنمية مجتمعه اقتصادياً واجتماعياً، وتخليصه من كل ألوان القلق والصراع والحقد والزيف الذي تعاني منه المجتمعات غير الإسلامية " . وبذلك تقر الدكتورة لورا فاجليزي في كتابها ( تفسير الإسلام ) : « بينما كان الناس يعانون قبلاً من الفوارق الاجتماعية ، أعلن الإسلام المساواة بين البشر ، ولم يصبح للمسلم امتياز على مسلم بأصله ، أو بأي عامل آخر لا يتعلق بشخصه ، وإنما الميزة خشية الله ، والعمل الصالح ، والقيم الخلقية »
إن الإسلام هو المصدر الأصيل لجميع الضوابط الاجتماعية ، وفيه تنبثق جميع آدابنا وأخلاقنا ، وعن طريقه نكتسب سلوكياتنا ، فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة المجتمع إلا بينها ووضحها ورسم طريقها وضوابطها ، وحيث يكون الإسلام هو أساس القيم ومصدر التشريع ، وتكون تعاليمه هي بذاتها قواعد التربية التي ينبثق منها ما يعرف بالرأي العام والعرف والتقاليد ، هذا المجتمع لا يحتاج إلى تعدد مصادر الضبط الاجتماعي ، فالمصدر واحد حق هو شرعة الإسلام ، ويمكن اعتبار المصادر الأخرى هي مظاهر تتعدد تعدد ألوان الطيف الذي يصدر من نور واحد أصيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق